مذهب الامام مالك
منتديات شتاء لندن :: اسلاميات :: المذاهب
صفحة 1 من اصل 1
مذهب الامام مالك
ختلف المؤرخون في ولادة الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، فمنهم قال عام 93 هجرية (وهو الأشهر) وقيل 94 هجرية وقيل 95 هجرية وقيل 96 هجرية في المدينة المنورة. وقد يرجع أسباب الاختلاف إلى اعتقاد البعض أن أم مالك حملته في بطنها ثلاث سنين! قال ابن عبد البر: وقد ذكر غير الواقدي أن أُم مالك حملت به ثلاث سنين (مناقب مالك للسيوطي ص 6). لم يكن أنس والد الإمام مالك معروفاً حيث لم يُذكر عن حياته في كتب التاريخ، بل حتى أن مالك نفسه لم يرو عنه، وجده أبو عامر كان تابعياً يمنياً نزل المدينة. ولم يكن مالك من أسرة علمية، إلا أن عمه كان مقرئاً.
واختلفوا في نسب مالك، لكن عامة الناس على أنه من العرب وليس من الموالي. ومع ذلك فقد طعن الكوثري الهالك في نسب الإمام مالكٍ، وجعله من الموالي لا من العرب، واستشهد بتسمية الإمام الزهري لعم الإمام مالك بـ"مولى التيميين". مع أن هذا لا يضر الإمام مالك –لو كان هذا الزعم صحيحاً– لقول الله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وسيأتي كيف أن الإمام مالك قد طعن في القاضي الثبت "سعد" لأنه تكلم في نسبه، وكذلك فعل مع الإمام ابن إسحاق، وقال عنه: «إنما هو دجال من الدجاجلة. نحن أخرجناه من المدينة». أي أن مالكاً قد جمع "الدجال" على "دجاجلة"، وهو جمع لم يكن سمع به ابن إدريس الكوفي، وظاهرٌ أنه لحن. جاء في لسان العرب (11|237) عن كلمة "دجال": «لـم يجمعه علـى "دجاجلة" إِلا مالك بن أَنس». ثم ذكر الكلمة الصحيحة مستشهداً بما قاله النبي t «فـي حديثه الصحيح فقال: "يكون فـي آخر الزمان دَجَّالون" أَي كَذَّابون مُـمَوِّهون، وقال: "إِن بـينَ يَدَي الساعة دَجَّالـين كَذَّابـين فاحذروهم". وقد تكرر ذكر الدجال فـي الـحديث، وهو الذي يظهر فـي آخر الزمان يَدَّعي الإِلهيَّة. وفَعَّال من أَبنـية الـمبالغة أَي يكثر منه الكذب والتلبـيس. قال الأَزهري: "كل كَذَّاب فهو دَجَّال، وجمعه دَجَّالون"».
وأياً كان، فإن الإمامَ مالك قد اتُّهِمَ باللّحن بالعربية. وقد اتهمه بذلك الإمام أبو عبد الرحمن النَّسائي، كما أخرجه الخطيب في الكفاية (2|555) بإسناد صحيح. كما أخرج الخطيب في كتاب "اقتضاء العلم العمل" (#157) قصة عن ابن أخت الإمام مالك، يقر فيها الإمام مالك على نفسه باللحن. وقد ذكر المبرَّد في كتاب "اللّحنَةَ" عن محمد بن القاسم عن الأصمعيّ (اللّغوي المشهور) قال: «دخلت المدينةَ على مالك بن أنس فما هِبْتُ أحداً هيبتي له، فتكلّم فَلَحَنَ، فقال: مُطِرْنا البارَحةَ مَطَراً أي مَطَراً، فَخَفّ في عيني. فقلت: يا أبا عبد الله، قد بَلَغْتَ من العلم هذا المبلغَ فَلَو أصلحتَ من لسانك. فقال: فكيفَ لو رأيتمُ ربيعةَ؟ كُنّا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيراً بخيراً. قال (الأصمعي): وإذا هو (مالك) قد جعلَهُ (جعل ربيعة) لنفسه قدوةً في اللّحْنِ وعذْراً». وهذا أخرجه الخطيب أيضاً في كتاب "الفقيه والمتفقه" (2|29) من وجه آخر عن الأصمعي، مما يعضد الرواية الأولى ويقويها. والأصمعي ثقة معروف بالدقة والتحري، كما قال المعلمي في التنكيل (1|331): «تجد في كتب اللغة ومعاني الشعر مواضع كثيرة يتوقف فيها الأصمعي، وذلك يدل على توقيه وتثبته».
قلت: وهذا لا يستغرب من ربيعة، فقد كان من الموالي. وليس في هذه القصة طعن بالإمام مالك كما زعم البعض، فإن اللحن ليس عيباً. «إنما العيب على من غلط من جهة اللغة فيما يغير به حكم الشريعة»، كما قال الإمام أبو بكر بن داود بن علي الظاهري تعليقاً على القصة السابقة. ومن تأمل عامة العلماء في ذلك العصر، لوجدهم من الموالي، ولوجد اللحن عندهم منتشراً. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته (ص543، ص337 ط. دار الهلال): فصلاً كاملاً «في أن حَملة العِلْم في الإسلام أكثرهم العجم». ولا يزال أكبر مذهب للمسلمين –منذ أيام الرشيد إلى يومنا هذا– هو مذهب أبو حنيفة الفارسي الأصل.
ومع ذلك تجده قد أفتى ببعض الأحكام الشرعية بعنصرية. فمثلاً قال مالك (عن مسألة تزويج المرأة بغير ولي): «أما الدنيئة كالسوداء أو التي أسلمت أو الفقيرة أو النبطية أو المولاة، فإن زَوَّجَها الجار وغيره –ممن ليس هو لها بولي– فهو جائز! وأما المرأة التي لها الموضع (أي الشرف) فإن وليها، فُرِّقَ بينهما. فإن أجاز ذلك الولي أو السلطان، جاز. فإن تقادم أمرها ولم يفسخ وولدت له الأولاد، لم يُفسَخ».
فرد عليه ابن حزم في المحلى (9|456): «وأما قول مالك فظاهر الفساد، لأنه فَرَّقَ بين الدَّنِيَّة وغير الدنية. وما عَلِمنا الدناءة، إلا معاصي الله تعالى. وأما السوداء والمولاة، فقد كانت أم أيمن –رضي الله عنها– سوداء ومولاة. و والله ما بعد أزواجه –عليه الصلاة والسلام– في هذه الأُمَّةِ امرأةٌ أعلى قدراً عند الله تعالى وعند أهل الإسلام كلهم، منها. وأما الفقيرة، فما الفقر دناءة. فقد كان في الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام– الفقير الذي أهلكه الفقر، وهم أهل الشرف والرفعة حقاً. وقد كان قارون وفرعون وهامان من الغنى بحيث عرف، وهم أهل الدناءة والرذالة حقاً. وأما النبطية، فرُبَّ نبطية لا يطمع فيها كثيرٌ من قريش، ليسارها وعلوِّ حالها في الدنيا. ورب بنت خليفة هلكت فاقةً وجهداً وضياعاً. ثم قوله "يفرق بينهما، فإن طال الأمر وولدت منه الأولاد، لم يفرق بينهما" فهذا عين الخطأ. إنما هو حق أو باطل، ولا سبيل إلى ثالث. فإن كان حقاً، فليس لأحدٍ نقض الحق إثر عقده، ولا بعد ذلك. وإن كان باطلاً، فالباطل مردود أبداً، إلا أن يأتي نص من قرآن أو سنة عن رسول الله r فيوقف عنده. وما نعلم قول مالك هذا، قاله أحدٌ قبله، ولا غيره، إلا من قلده. ولا مُتَعَلَّقٌ له بقرآنٍ ولا وسنةٍ صحيحةٍ ولا بأثرٍ غير ساقطٍ ولا بقول صاحبٍ ولا تابعٍ ولا معقولٍ ولا قياسٍ ولا رأيٍ له وجهٌ يُعرف».
أصبح الإمام مالك فقيهاً وأخذ يفتي، بعد أن قارب الأربعين (مالك لأبي زهرة ص47)، وتعرض لكثير من السخرية لمخالفته من هم أعلم منه. قال سعيد بن أيوب: «لو أن الليث ومالك اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد»! (الرحمة الغيثية لابن حجر ص6). ونقل ابن عبد البر المالكي في "جامع بيان العلم وفضله" (2|1109) عن سلمة بن سليمان (ثقة ثبت) قال: قلت لابن المبارك (فقيه خراسان): «وضعتَ من رأي أبي حنيفة، ولم تضع من رأي مالك؟». قال: «لم أره (أي: رأي مالك) عِلْماً».
بالمقابل فقد قال أتباع مالك كلاماً كثيراً فيه بلغ حد المبالغة. حيث قالوا أنه مكتوب على فخذ مالك أن مالكَ حُجّة الله! وقالوا أنه لا يدخل الخلاء إلا مرة كل ثلاثة أيام لأنه يستحي! وقالوا أنهم رأوا في المنام أخبار عن أمواتهم أنهم لما ماتوا وجاء الملَكين إليهم لمحاسبتهم، ظَهَرَ مالك لهما وصرفهما عن الموتى! (انظر مشارق الأنوار للعدوي ص288). وذكر البعض أنهم رأوا في المنام النبي r فقالوا له أن مالك والليث يختلفان فمن هو الأعلم؟ فقال النبي r: مالك وارث جدي إبراهيم! (مناقب مالك للزاوي ص18). وقيل أنهم سئلوا النبي r من بعدك؟ فقال: مالك!
ومالك –وإن كان ثقة في الحديث– فهو صاحب رأي، أخذه من شيخه ربيعة الرأي (قيل 136، وقيل 142هـ). وربيعة صاحب رأي مشهور به حتى صار جزءاً من اسمه. وقد تألّم سعيد بن المسيّب –شيخ فقهاء أهل الحديث في المدينة– من ربيعة الرأي لما اعترض على برأيه على السنة في دية الأصابع. فقال سعيد: «أعراقي أنت؟ (لشهرة أهل العراق بالرأي) إنها السنة». ومع حب أهل المدينة لربيعة واحترامهم له، فقد كانوا يكرهون إفراطه بالرأي. قال محمد بن سعد: «كانوا يتقونه لموضع الرأي». وروى عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (#4596) عن أبيه: قال سفيان بن عيينة: «ثلاثة أولاد سبايا الأمم يعجبون برأيهم: بالبصرة عثمان البتي، وبالمدينة ربيعة الرأي، وبالكوفة أبو حنيفة». وقريباً منه في "سؤالات ابن هانئ" (#2099). وربيعة الرأي –رحمه الله– هو الذي أخذ عنه الإمام مالك الفقه، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. كما أن أبا حنيفة أخذ الفقه عن حماد، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. قال مصعب بن عبد الله عن ربيعة الرأي: «عنه أخذ مالك بن أنس». وهو أمر يقر به الإمام مالك، حتى أنه روى عنه ابن اخته مطرف قوله: «ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن».
وقد تكلم بعض أهل الحديث في مالك في هذا، مع توثيقهم لإياه في الحديث. وأهل الحديث عندما يمدحون مالكاً فإنهم غالباً يقصدون ثقته في الحديث وعلو إسناده ووثاقة رجاله. لكن بعضهم كان يذم رأيه. وقد لخص أحمد رأيه بمالك فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف».
إذ روى الخطيب في تاريخ بغداد (13|445) عن إبراهيم بن إسحاق الحربي (ثقة فقيه) قال: سمعت أحمد بن حنبل أنه سُئل عن مالك، فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف». فانظر لإنصاف إمام أهل الحديث في عصره، كيف فرّق بين قوة حفظ مالك للحديث وبين ضعف رأيه. وقال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار". فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه». ثم قال أحمد: «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك». أي أن أحمد موافق لفتوى ابن أبي ذئب في استتابة مالك. والحديث السابق أخرجه الإمام مالك في موطأه وصرح بأنه لا يعمل به! مع أنه حديث صحيح مشهور بين علماء المدينة، حتى قال عنه الإمام أحمد (كما في العلل 1|539): «هذا خبر موطوء (مشهور) في المدينة».
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سُئِلَ ابن المبارك: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: «أبو حنيفة (أفقه من مالك)». وفي تاريخ بغداد (13|343) عن محمد بن مقاتل (أبو الحسن الكسائي، ثقة متقن) قال: سمعت ابن المبارك قال: «إن كان الأثر قد عُرِفَ واحتيج إلى الرأي، فرأي: مالك وسفيان وأبي حنيفة. وأبو حنيفة: أحسنهم وأدَقّهم فِطنةً وأغوصهم على الفقه. وهو أفقه الثلاثة». وابن المبارك من كبار أئمة الإسلام. قال عنه ابن حجر: «ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير». و قال عن ابن حبان: «كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها». و قال ابن عيينة: «نظرت في أمر الصحابة، فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك، إلا بصحبتهم النبي r و غزوهم معه». بل إن مالك نفسه كان يعظمه ويقول عنه: «فقيه خراسان». وقد صاحب ابن المبارك هؤلاء الثلاثة.
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله" (2|1080) عن الليث بن سعد أنه قال: «أحصيتُ على مالك بن أنس سبعينَ مسألة، كلها مخالفة لسُنة رسول الله r مما قال فيها برأيه. ولقد كتبت إليه أعِظهُ في ذلك». وسيأتي بيان فضل الليث على مالك في الفقه، كما نص الشافعي وغيره، وأقر ذلك بعض كبار تلاميذ مالك المنصفين. ونقل ابن عبد البر (2|1105) عن المروزي قال: «وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق، لشيءٍ بلَغَه عنه تكلّم به في نَسَبه وعِلْمه».
وقال ابن عبد البر (2|1115): «وقد تكلّم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلامٍ فيه جفاء وخشونة، كرهتُ ذِكره، وهو مشهورٌ عنه. قاله إنكاراً لقول مالك في حديث البيِّعين بالخيار...، وتكلم في مالك أيضاً -فيما ذكره الساجي في كتاب "العلل": عبد العزيز بن أبي سلمة (ثقة مدني، قال أشهب: هو أعلم من مالك. وهذه شهادة أحد أكبر فقهاء المالكية في مصر)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (رجل صالح له تفسير)، وابن إسحاق (إمام المغازي)، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد (نبيل عالم بالقرآن، ولم يكن بالحافظ)، وعابوا عليه أشياء من مذهبه. وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد. وتحامل (!) عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسَداً (!) لموضع إمامته. وعابَهُ قوم في إنكاره المسح على الخفَّين في الحضر والسفر (رغم تواتر تلك السنة)، وفي كلامه في علي وعثمان (رضي الله عنهما)، وفتياه إتيان النساء من الأعجاز (أي في أدبارهن)، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله r. ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذِكره».
وابن عبد البر مالكي المذهب، لم يسرد هذه الأقوال ليطعن بالإمام مالك –وحاشاه–. إنما ذكرها ليُبَيِّنَ أن مالكاً قد طعن به أهل الحديث بسبب كراهيتهم للرأي. ولكن مالك شفع له عندهم أنه كان ثبتاً في الحديث، وما استطاعوا الاستغناء عن حديثه. ونفس الشيء تكرر مع عدد من أئمة أهل الرأي مثل سفيان الثوري (ذكره الترمذي في أهل الرأي) وغيره من علماء الكوفة. نقل ابن عبد البر قول أحمد لما قيل له: «أليس مالك تكلم بالرأي»؟ قال: «بلى، ولكن أبو حنيفة أكثر رأياً منه». ولذلك فإن الإمام ابن قتيبة (خطيب أهل السنة) في كتابه "المعارف" قد ذكر مالك في أصحاب الرأي، ولم يذكره مع أصحاب الحديث. فكان غالب كلامهم على أبي حنيفة الذي لم يكن عنده كثير الحديث، وما كان يعتني بألفاظه. فشاع عند بعض المتأخرين أن أبا حنيفة وحده كان صاحب رأي، والصواب أن مالكاً كذلك. إلا أن الشذوذ في مذهب مالك أقل، لاعتماده –في الغالب– على عمل أهل المدينة. علماً بأن العلامة ابن عابدين الحنفي ذكر في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" أن أقرب المذاهب لمذهب الإمام أبي حنيفة هو مذهب الإمام مالك. والسبب أن كليهما من أصحاب الرأي، رحم الله الجميع وعفا عنهم.
ثم ليس المقصود –بمقولة الإمام أحمد– أن الإمام مالك هو أحفظ الناس. وإنما كان ثقةً ثبتاً، لكنه أخطأ في عدة أحاديث. حتى أن سفيان الثوري يقول (كما في تاريخ بغداد 9|164): «مالك ليس له حفظ»، ويقصد مقارنة بأئمة أهل الحديث الكبار. وذكر أبو نعيم الحافظ عن الإمام علي بن المديني قال سألت يحيى بن سعيد (الإمام المعروف)، قلت له: «أيما أحب إليك: رأي مالك أو رأي سفيان؟» (وكلاهما من ثقات أهل الرأي كما هو معلوم). قال: «سفيان. لا يُشَكُّ في هذا! سفيان فوق مالك في كل شيء». وقال الإمام يحيى بن معين –كما في تاريخ بغداد (9|164)–: «سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إليّ من مالك في كلّ شيء. يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد».
قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1|223): «قد ذكر بعض العلماء أن مالكاً عابه جماعة من أهل العلم في زمانه، بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة»، ثم ذكر أمثلة على ذلك. ثم ذكر ممن عابه: ابن أبي ذئب، وعبد العزيز الماجشون، وابن أبي حازم، ومحمد بن إسحاق. وقد ناظره عمر بن قيس –في شيء من أمر الحج بحضرة هارون– فقال عمر لمالك: «أنت أحياناً تخطئ، وأحياناً لا تصيب». فقال مالك: «كذاك الناس»!
وقد طعن الإمام مالك في إمام المغازي محمد بن إسحاق، واتهمه بأنه "دجال من الدجاجلة"، لمجرد أنه تكلم في نسبه. مع أن هذا الأمر قد اختلف فيه اختلافاً كبيراً. جاء في سير أعلام النبلاء (8|71): «قال القاضي عياض (مالكي المذهب): أختلف في نسب "ذي أصبح" اختلافاً كثيراً. وروي عن ابن إسحاق أنه زعم أن مالكاً وآله موالي بني تيم، فأخطأ. وكان ذلك أقوى سبب في تكذيب الإمام مالك له وطعنه عليه». وابن إسحاق مسبوق بالإمام الزهري، كما سبق بيانه.
واختلفوا في نسب مالك، لكن عامة الناس على أنه من العرب وليس من الموالي. ومع ذلك فقد طعن الكوثري الهالك في نسب الإمام مالكٍ، وجعله من الموالي لا من العرب، واستشهد بتسمية الإمام الزهري لعم الإمام مالك بـ"مولى التيميين". مع أن هذا لا يضر الإمام مالك –لو كان هذا الزعم صحيحاً– لقول الله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وسيأتي كيف أن الإمام مالك قد طعن في القاضي الثبت "سعد" لأنه تكلم في نسبه، وكذلك فعل مع الإمام ابن إسحاق، وقال عنه: «إنما هو دجال من الدجاجلة. نحن أخرجناه من المدينة». أي أن مالكاً قد جمع "الدجال" على "دجاجلة"، وهو جمع لم يكن سمع به ابن إدريس الكوفي، وظاهرٌ أنه لحن. جاء في لسان العرب (11|237) عن كلمة "دجال": «لـم يجمعه علـى "دجاجلة" إِلا مالك بن أَنس». ثم ذكر الكلمة الصحيحة مستشهداً بما قاله النبي t «فـي حديثه الصحيح فقال: "يكون فـي آخر الزمان دَجَّالون" أَي كَذَّابون مُـمَوِّهون، وقال: "إِن بـينَ يَدَي الساعة دَجَّالـين كَذَّابـين فاحذروهم". وقد تكرر ذكر الدجال فـي الـحديث، وهو الذي يظهر فـي آخر الزمان يَدَّعي الإِلهيَّة. وفَعَّال من أَبنـية الـمبالغة أَي يكثر منه الكذب والتلبـيس. قال الأَزهري: "كل كَذَّاب فهو دَجَّال، وجمعه دَجَّالون"».
وأياً كان، فإن الإمامَ مالك قد اتُّهِمَ باللّحن بالعربية. وقد اتهمه بذلك الإمام أبو عبد الرحمن النَّسائي، كما أخرجه الخطيب في الكفاية (2|555) بإسناد صحيح. كما أخرج الخطيب في كتاب "اقتضاء العلم العمل" (#157) قصة عن ابن أخت الإمام مالك، يقر فيها الإمام مالك على نفسه باللحن. وقد ذكر المبرَّد في كتاب "اللّحنَةَ" عن محمد بن القاسم عن الأصمعيّ (اللّغوي المشهور) قال: «دخلت المدينةَ على مالك بن أنس فما هِبْتُ أحداً هيبتي له، فتكلّم فَلَحَنَ، فقال: مُطِرْنا البارَحةَ مَطَراً أي مَطَراً، فَخَفّ في عيني. فقلت: يا أبا عبد الله، قد بَلَغْتَ من العلم هذا المبلغَ فَلَو أصلحتَ من لسانك. فقال: فكيفَ لو رأيتمُ ربيعةَ؟ كُنّا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيراً بخيراً. قال (الأصمعي): وإذا هو (مالك) قد جعلَهُ (جعل ربيعة) لنفسه قدوةً في اللّحْنِ وعذْراً». وهذا أخرجه الخطيب أيضاً في كتاب "الفقيه والمتفقه" (2|29) من وجه آخر عن الأصمعي، مما يعضد الرواية الأولى ويقويها. والأصمعي ثقة معروف بالدقة والتحري، كما قال المعلمي في التنكيل (1|331): «تجد في كتب اللغة ومعاني الشعر مواضع كثيرة يتوقف فيها الأصمعي، وذلك يدل على توقيه وتثبته».
قلت: وهذا لا يستغرب من ربيعة، فقد كان من الموالي. وليس في هذه القصة طعن بالإمام مالك كما زعم البعض، فإن اللحن ليس عيباً. «إنما العيب على من غلط من جهة اللغة فيما يغير به حكم الشريعة»، كما قال الإمام أبو بكر بن داود بن علي الظاهري تعليقاً على القصة السابقة. ومن تأمل عامة العلماء في ذلك العصر، لوجدهم من الموالي، ولوجد اللحن عندهم منتشراً. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته (ص543، ص337 ط. دار الهلال): فصلاً كاملاً «في أن حَملة العِلْم في الإسلام أكثرهم العجم». ولا يزال أكبر مذهب للمسلمين –منذ أيام الرشيد إلى يومنا هذا– هو مذهب أبو حنيفة الفارسي الأصل.
ومع ذلك تجده قد أفتى ببعض الأحكام الشرعية بعنصرية. فمثلاً قال مالك (عن مسألة تزويج المرأة بغير ولي): «أما الدنيئة كالسوداء أو التي أسلمت أو الفقيرة أو النبطية أو المولاة، فإن زَوَّجَها الجار وغيره –ممن ليس هو لها بولي– فهو جائز! وأما المرأة التي لها الموضع (أي الشرف) فإن وليها، فُرِّقَ بينهما. فإن أجاز ذلك الولي أو السلطان، جاز. فإن تقادم أمرها ولم يفسخ وولدت له الأولاد، لم يُفسَخ».
فرد عليه ابن حزم في المحلى (9|456): «وأما قول مالك فظاهر الفساد، لأنه فَرَّقَ بين الدَّنِيَّة وغير الدنية. وما عَلِمنا الدناءة، إلا معاصي الله تعالى. وأما السوداء والمولاة، فقد كانت أم أيمن –رضي الله عنها– سوداء ومولاة. و والله ما بعد أزواجه –عليه الصلاة والسلام– في هذه الأُمَّةِ امرأةٌ أعلى قدراً عند الله تعالى وعند أهل الإسلام كلهم، منها. وأما الفقيرة، فما الفقر دناءة. فقد كان في الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام– الفقير الذي أهلكه الفقر، وهم أهل الشرف والرفعة حقاً. وقد كان قارون وفرعون وهامان من الغنى بحيث عرف، وهم أهل الدناءة والرذالة حقاً. وأما النبطية، فرُبَّ نبطية لا يطمع فيها كثيرٌ من قريش، ليسارها وعلوِّ حالها في الدنيا. ورب بنت خليفة هلكت فاقةً وجهداً وضياعاً. ثم قوله "يفرق بينهما، فإن طال الأمر وولدت منه الأولاد، لم يفرق بينهما" فهذا عين الخطأ. إنما هو حق أو باطل، ولا سبيل إلى ثالث. فإن كان حقاً، فليس لأحدٍ نقض الحق إثر عقده، ولا بعد ذلك. وإن كان باطلاً، فالباطل مردود أبداً، إلا أن يأتي نص من قرآن أو سنة عن رسول الله r فيوقف عنده. وما نعلم قول مالك هذا، قاله أحدٌ قبله، ولا غيره، إلا من قلده. ولا مُتَعَلَّقٌ له بقرآنٍ ولا وسنةٍ صحيحةٍ ولا بأثرٍ غير ساقطٍ ولا بقول صاحبٍ ولا تابعٍ ولا معقولٍ ولا قياسٍ ولا رأيٍ له وجهٌ يُعرف».
أصبح الإمام مالك فقيهاً وأخذ يفتي، بعد أن قارب الأربعين (مالك لأبي زهرة ص47)، وتعرض لكثير من السخرية لمخالفته من هم أعلم منه. قال سعيد بن أيوب: «لو أن الليث ومالك اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد»! (الرحمة الغيثية لابن حجر ص6). ونقل ابن عبد البر المالكي في "جامع بيان العلم وفضله" (2|1109) عن سلمة بن سليمان (ثقة ثبت) قال: قلت لابن المبارك (فقيه خراسان): «وضعتَ من رأي أبي حنيفة، ولم تضع من رأي مالك؟». قال: «لم أره (أي: رأي مالك) عِلْماً».
بالمقابل فقد قال أتباع مالك كلاماً كثيراً فيه بلغ حد المبالغة. حيث قالوا أنه مكتوب على فخذ مالك أن مالكَ حُجّة الله! وقالوا أنه لا يدخل الخلاء إلا مرة كل ثلاثة أيام لأنه يستحي! وقالوا أنهم رأوا في المنام أخبار عن أمواتهم أنهم لما ماتوا وجاء الملَكين إليهم لمحاسبتهم، ظَهَرَ مالك لهما وصرفهما عن الموتى! (انظر مشارق الأنوار للعدوي ص288). وذكر البعض أنهم رأوا في المنام النبي r فقالوا له أن مالك والليث يختلفان فمن هو الأعلم؟ فقال النبي r: مالك وارث جدي إبراهيم! (مناقب مالك للزاوي ص18). وقيل أنهم سئلوا النبي r من بعدك؟ فقال: مالك!
ومالك –وإن كان ثقة في الحديث– فهو صاحب رأي، أخذه من شيخه ربيعة الرأي (قيل 136، وقيل 142هـ). وربيعة صاحب رأي مشهور به حتى صار جزءاً من اسمه. وقد تألّم سعيد بن المسيّب –شيخ فقهاء أهل الحديث في المدينة– من ربيعة الرأي لما اعترض على برأيه على السنة في دية الأصابع. فقال سعيد: «أعراقي أنت؟ (لشهرة أهل العراق بالرأي) إنها السنة». ومع حب أهل المدينة لربيعة واحترامهم له، فقد كانوا يكرهون إفراطه بالرأي. قال محمد بن سعد: «كانوا يتقونه لموضع الرأي». وروى عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (#4596) عن أبيه: قال سفيان بن عيينة: «ثلاثة أولاد سبايا الأمم يعجبون برأيهم: بالبصرة عثمان البتي، وبالمدينة ربيعة الرأي، وبالكوفة أبو حنيفة». وقريباً منه في "سؤالات ابن هانئ" (#2099). وربيعة الرأي –رحمه الله– هو الذي أخذ عنه الإمام مالك الفقه، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. كما أن أبا حنيفة أخذ الفقه عن حماد، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. قال مصعب بن عبد الله عن ربيعة الرأي: «عنه أخذ مالك بن أنس». وهو أمر يقر به الإمام مالك، حتى أنه روى عنه ابن اخته مطرف قوله: «ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن».
وقد تكلم بعض أهل الحديث في مالك في هذا، مع توثيقهم لإياه في الحديث. وأهل الحديث عندما يمدحون مالكاً فإنهم غالباً يقصدون ثقته في الحديث وعلو إسناده ووثاقة رجاله. لكن بعضهم كان يذم رأيه. وقد لخص أحمد رأيه بمالك فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف».
إذ روى الخطيب في تاريخ بغداد (13|445) عن إبراهيم بن إسحاق الحربي (ثقة فقيه) قال: سمعت أحمد بن حنبل أنه سُئل عن مالك، فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف». فانظر لإنصاف إمام أهل الحديث في عصره، كيف فرّق بين قوة حفظ مالك للحديث وبين ضعف رأيه. وقال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار". فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه». ثم قال أحمد: «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك». أي أن أحمد موافق لفتوى ابن أبي ذئب في استتابة مالك. والحديث السابق أخرجه الإمام مالك في موطأه وصرح بأنه لا يعمل به! مع أنه حديث صحيح مشهور بين علماء المدينة، حتى قال عنه الإمام أحمد (كما في العلل 1|539): «هذا خبر موطوء (مشهور) في المدينة».
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سُئِلَ ابن المبارك: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: «أبو حنيفة (أفقه من مالك)». وفي تاريخ بغداد (13|343) عن محمد بن مقاتل (أبو الحسن الكسائي، ثقة متقن) قال: سمعت ابن المبارك قال: «إن كان الأثر قد عُرِفَ واحتيج إلى الرأي، فرأي: مالك وسفيان وأبي حنيفة. وأبو حنيفة: أحسنهم وأدَقّهم فِطنةً وأغوصهم على الفقه. وهو أفقه الثلاثة». وابن المبارك من كبار أئمة الإسلام. قال عنه ابن حجر: «ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير». و قال عن ابن حبان: «كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها». و قال ابن عيينة: «نظرت في أمر الصحابة، فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك، إلا بصحبتهم النبي r و غزوهم معه». بل إن مالك نفسه كان يعظمه ويقول عنه: «فقيه خراسان». وقد صاحب ابن المبارك هؤلاء الثلاثة.
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله" (2|1080) عن الليث بن سعد أنه قال: «أحصيتُ على مالك بن أنس سبعينَ مسألة، كلها مخالفة لسُنة رسول الله r مما قال فيها برأيه. ولقد كتبت إليه أعِظهُ في ذلك». وسيأتي بيان فضل الليث على مالك في الفقه، كما نص الشافعي وغيره، وأقر ذلك بعض كبار تلاميذ مالك المنصفين. ونقل ابن عبد البر (2|1105) عن المروزي قال: «وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق، لشيءٍ بلَغَه عنه تكلّم به في نَسَبه وعِلْمه».
وقال ابن عبد البر (2|1115): «وقد تكلّم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلامٍ فيه جفاء وخشونة، كرهتُ ذِكره، وهو مشهورٌ عنه. قاله إنكاراً لقول مالك في حديث البيِّعين بالخيار...، وتكلم في مالك أيضاً -فيما ذكره الساجي في كتاب "العلل": عبد العزيز بن أبي سلمة (ثقة مدني، قال أشهب: هو أعلم من مالك. وهذه شهادة أحد أكبر فقهاء المالكية في مصر)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (رجل صالح له تفسير)، وابن إسحاق (إمام المغازي)، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد (نبيل عالم بالقرآن، ولم يكن بالحافظ)، وعابوا عليه أشياء من مذهبه. وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد. وتحامل (!) عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسَداً (!) لموضع إمامته. وعابَهُ قوم في إنكاره المسح على الخفَّين في الحضر والسفر (رغم تواتر تلك السنة)، وفي كلامه في علي وعثمان (رضي الله عنهما)، وفتياه إتيان النساء من الأعجاز (أي في أدبارهن)، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله r. ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذِكره».
وابن عبد البر مالكي المذهب، لم يسرد هذه الأقوال ليطعن بالإمام مالك –وحاشاه–. إنما ذكرها ليُبَيِّنَ أن مالكاً قد طعن به أهل الحديث بسبب كراهيتهم للرأي. ولكن مالك شفع له عندهم أنه كان ثبتاً في الحديث، وما استطاعوا الاستغناء عن حديثه. ونفس الشيء تكرر مع عدد من أئمة أهل الرأي مثل سفيان الثوري (ذكره الترمذي في أهل الرأي) وغيره من علماء الكوفة. نقل ابن عبد البر قول أحمد لما قيل له: «أليس مالك تكلم بالرأي»؟ قال: «بلى، ولكن أبو حنيفة أكثر رأياً منه». ولذلك فإن الإمام ابن قتيبة (خطيب أهل السنة) في كتابه "المعارف" قد ذكر مالك في أصحاب الرأي، ولم يذكره مع أصحاب الحديث. فكان غالب كلامهم على أبي حنيفة الذي لم يكن عنده كثير الحديث، وما كان يعتني بألفاظه. فشاع عند بعض المتأخرين أن أبا حنيفة وحده كان صاحب رأي، والصواب أن مالكاً كذلك. إلا أن الشذوذ في مذهب مالك أقل، لاعتماده –في الغالب– على عمل أهل المدينة. علماً بأن العلامة ابن عابدين الحنفي ذكر في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" أن أقرب المذاهب لمذهب الإمام أبي حنيفة هو مذهب الإمام مالك. والسبب أن كليهما من أصحاب الرأي، رحم الله الجميع وعفا عنهم.
ثم ليس المقصود –بمقولة الإمام أحمد– أن الإمام مالك هو أحفظ الناس. وإنما كان ثقةً ثبتاً، لكنه أخطأ في عدة أحاديث. حتى أن سفيان الثوري يقول (كما في تاريخ بغداد 9|164): «مالك ليس له حفظ»، ويقصد مقارنة بأئمة أهل الحديث الكبار. وذكر أبو نعيم الحافظ عن الإمام علي بن المديني قال سألت يحيى بن سعيد (الإمام المعروف)، قلت له: «أيما أحب إليك: رأي مالك أو رأي سفيان؟» (وكلاهما من ثقات أهل الرأي كما هو معلوم). قال: «سفيان. لا يُشَكُّ في هذا! سفيان فوق مالك في كل شيء». وقال الإمام يحيى بن معين –كما في تاريخ بغداد (9|164)–: «سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إليّ من مالك في كلّ شيء. يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد».
قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1|223): «قد ذكر بعض العلماء أن مالكاً عابه جماعة من أهل العلم في زمانه، بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة»، ثم ذكر أمثلة على ذلك. ثم ذكر ممن عابه: ابن أبي ذئب، وعبد العزيز الماجشون، وابن أبي حازم، ومحمد بن إسحاق. وقد ناظره عمر بن قيس –في شيء من أمر الحج بحضرة هارون– فقال عمر لمالك: «أنت أحياناً تخطئ، وأحياناً لا تصيب». فقال مالك: «كذاك الناس»!
وقد طعن الإمام مالك في إمام المغازي محمد بن إسحاق، واتهمه بأنه "دجال من الدجاجلة"، لمجرد أنه تكلم في نسبه. مع أن هذا الأمر قد اختلف فيه اختلافاً كبيراً. جاء في سير أعلام النبلاء (8|71): «قال القاضي عياض (مالكي المذهب): أختلف في نسب "ذي أصبح" اختلافاً كثيراً. وروي عن ابن إسحاق أنه زعم أن مالكاً وآله موالي بني تيم، فأخطأ. وكان ذلك أقوى سبب في تكذيب الإمام مالك له وطعنه عليه». وابن إسحاق مسبوق بالإمام الزهري، كما سبق بيانه.
منتديات شتاء لندن :: اسلاميات :: المذاهب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى